فصل: (مسألة:نية المعصية في السفر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:الصلاة مضطجعًا]

فإن عجز عن الصلاة قاعدًا صلى مضطجعًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، ولما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين.
وكيف يضطجع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها وهو المنصوص في " البويطي ": (أنه يضطجع على جنبه الأيمن معترضًا بين يدي القبلة، كما يوضع الميت في لحده) وبه قال عمر، وأحمد بن حنبل.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو اضطجع على جنبه الأيسر معترضًا، أو وضع الميت في لحده على جنبه الأيسر جاز ذلك عندي، والأول أولى.
والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويستقبل القبلة برجليه، وبه قال ابن عمر، والثوري في إحدى الروايتين عنهما، والأوزاعي، وأبو حنيفة.
والثالث: أنه يضطجع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة برجليه.
والأول أصح؛ لما روى علي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع صلى جالسًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى على قفاه، ورجلاه إلى القبلة، وأومأ بطرفه».
ولأنه إذا فعل ذلك استقبل القبلة بجميع بدنه، وإذا كان رأسه في دبر القبلة لم يستقبل القبلة إلا برجليه، ويومئ برأسه إلى الركوع، والسجود، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بحاجبه وطرفه إليهما؛ لما ذكرناه في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن لم يمكنه أن يصلي مضطجعًا بالإيماء، وعجزت لسانه عن القراءة حركها عند القراءة، فإن لم يمكنه تحريكها وعقله معه نوى الصلاة، وعرض القرآن على قلبه ونواه، وكذلك يعرض سائر أفعال الصلاة على قلبه وينويها.
وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه فعل الصلاة في هذه الحالة).
وحكى الطبري في "العدة" ذلك عن بعض أصحابنا.
والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وهذا يستطيع ما ذكرناه، فوجب عليه الإتيان به.

.[مسألة:العجز أثناء الصلاة]

إذا افتتح الصلاة قائمًا، ثم عجز عن القيام، فله أن يجلس، ويبني على صلاته.
قال أصحابنا: وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فلو قرأ الفاتحة في حال الانحطاط إلى الجلوس أجزأه؛ لأن الانحطاط أعلى حالًا من الجلوس، فإذا أجزأته القراءة في حال الجلوس، فلأن تجزئه في حال الانحطاط أولى.
وكذلك إذا افتتح الصلاة جالسًا، ثم عجز عن الجلوس، واضطجع في صلاته بنى عليها، كما قلنا في التي قبلها.
وإن افتتح الصلاة جالسًا عند العجز، ثم قدر على القيام في أثناء الصلاة، وجب عليه القيام، ويبني على صلاته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وأكثر أهل العلم.
وقال محمد بن الحسن: تبطل الصلاة، ويستأنفها.
دليلنا: أنه قادر على القيام في موضع القيام، فلزمه القيام والبناء عليه، كما لو قعد التشهد الأول؛ ولأن زوال العذر لا يورث عملًا طويلًا، فلم تبطل الصلاة لأجله.
إذا ثبت هذا: فإن كان قد قرأ الفاتحة في جلوسه قال الشافعي: (أستحب له أن يعيدها في حال القيام؛ ليأتي بها على أكمل أحواله)، وهذا يبطل قول من قال من أصحابنا: إن من قرأ فاتحة الكتاب مرتين في ركعة بطلت صلاته، ولا يجب عليه إعادتها؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بالفراغ منها.
فإن قدر على القيام قبل أن يقرأ الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويقرأ الفاتحة في حال القيام، وإن قدر على القيام في أثناء الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويتم قراءتها وهو قائم، فإن أتمها في حال نهوضه إلى القيام لم يجزئه؛ لأن القراءة وجبت عليه وهو قائم، والقيام أعلى من حال النهوض، فلا يجوز أن يسقط ما وجب عليه في حال الكمال، بما هو أدنى منه.
وإن افتتح الصلاة مومئًا، ثم قدر على الجلوس، أو القيام في أثناء الصلاة، فإنه يلزمه ذلك، ويبني على صلاته.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (تبطل صلاته، فيقوم، ويستأنف الصلاة).
وكذلك العريان عندهم إذا استفتح الصلاة، ثم قدر على السترة في أثناء الصلاة، فإنه يستر عورته، ويستأنف الصلاة، إلا أنهم وافقونا في الأمة، إذا أعتقت وهي في الصلاة مكشوفة الرأس، أنها تستر رأسها، وتبني على صلاتها.
وقالوا في الأمي إذا افتتح الصلاة، ثم قدر على القراءة في أثناء الصلاة: إنه يستأنف الصلاة.
ودليلنا: أنه قدر على ركن من أركان الصلاة في أثنائها، فوجب أن يلزمه البناء على صلاته، كما لو افتتح الصلاة جالسًا، ثم قدر على القيام. وبالله التوفيق.

.[باب صلاة المسافر]

يجوز قصر الصلاة في السفر في: الخوف، والأمن.
والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].
وأما السنة: فروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في أسفاره حاجًّا وغازيًا».
وروي عن «يعلى بن أمية: أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وقد أمن الناس، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»، فثبت جواز القصر في السفر بالخوف بالكتاب، وثبت جواز القصر في السفر بالأمن بالسنة.
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز قصر الصلاة في السفر.
إذا ثبت هذا: فإنما يجوز قصر الظهر والعصر والعشاء، فأما الصبح والمغرب: فلا يجوز قصرهما؛ لأنه لم يروَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصرهما، وقصر سائر الصلوات الأخرى؛ ولأن الأمة أجمعت على ذلك أيضًا.
وروي عن عائشة: أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتْين، إلا المغرب والصبح، وكان إذا سافر عاد إلى الأول).
ويجوز قصر الصلاة في السفر في البحر، كما في السفر في البر.

.[مسألة:أنواع السفر]

والأسفار على أربعة أضرب: واجب، ومحظور، وطاعة، ومباح.
فأما الواجب: فهو سفر الحج والعمرة الواجبين، والجهاد في سبيل الله، إذا تعين عليه، والهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام، فهذا يجوز الترخص فيه برخص السفر، بلا خلاف بين أهل العلم.
وأما السفر المحظور: فهو أن يسافر لقطع الطريق، أو لقتل نفس بغير حق، أو ليزني بامرأة، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الترخص فيه بشيء من رخص السفر عندنا.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يترخص بجميع الرخص، حتى قال: لو خرج مع الحاج ليسرقهم، ولم ينو حجًّا ولا عمرة، جاز له أن يترخص). وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3].
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173].
قال ابن عباس: (غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم بسيفه)؛ ولأن في تجويز الترخص برخص السفر في سفر المعصية إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز.
وأما سفر الطاعة: فهو السفر لزيارة الوالدين، والسفر لحج التطوع، وما أشبهه.
وأما المباح: فهو أن يسافر لنزهة، أو تجارة، فحكم هذين الضربين عندنا حكم السفر الواجب في جواز الترخص بهما، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن مسعود: (لا يجوز قصر الصلاة إلا في السفر الواجب).
وقال عطاء: لا يجوز القصر إلا في سفر الطاعة.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعًا»، ولم يفرق بين المباح والواجب.
ولأن كل رخصة تعلقت بالسفر الواجب تعلقت بالطاعة والمباح، كالنافلة على الراحلة.
قال الشيخ أبو حامد: والأحكام التي تتعلق بالسفر على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يتعلق إلا بالسفر الطويل، وضرب: يتعلق بالسفر الطويل والقصير، وضرب: يتعلق بالطويل، وهل يتعلق بالقصير؟ فيه قولان.
فأما الضرب الذي لا يتعلق إلا بالطويل: فهي ثلاثة: القصر، والفطر في رمضان، ومسح الخفين ثلاثة أيام.
وحكى أبو علي السنجي قولًا آخر: أن القصر يجوز في السفر القصير مع الخوف لعموم الآية، وليس بصحيح.
وأما الأحكام التي تتعلق بالقصير والطويل: فهي ثلاثة:
النافلة على الراحلة، والتيمم عند عدم الماء، وأكل الميتة عند الضرورة.
وقد ذكرت قبل هذا قولًا آخر في (التيمم) والتنفل على الراحلة: أنه لا يجوز في القصير، وليس بمشهور.
وأما الذي اختلف فيه قول الشافعي في القصير: فهو الجمع بين الصلاتين، ويأتي توجيه القولين في موضعهما.
إذا ثبت هذا: فاختلفت عبارات الشافعي عن حد السفر الطويل:
فقال في موضع: (ستة وأربعون ميلًا بالهاشمي).
وقال في موضع: (ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي).
وقال في موضع: (أكثر من أربعين ميلًا).
وقال في موضع: (أربعون ميلًا: مسيرة ليلتين بسير الأثقال، ودبيب الأقدام).
وقال في موضع: (مسيرة يومين).
وقال في موضع: (مسيرة يوم وليلة).
قال أصحابنا: وليس بين هذه العبارات اختلاف في المعنى، وإنما المراد واحد، وهو أربعة برد، كل بريد أربعة فرسخ ثلاثة أميال بالهاشمي، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وذلك ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي.
وحيث قال الشافعي: (ستة وأربعون ميلًا) أراد: غير الميل الذي يبدأ به، وغير الميل الذي يختم به.
وحيث قال: (أكثر من أربعين ميلًا) فتفسيره: ما ذكرناه.
وحيث قال: (أربعون ميلًا) أراد: بأميال بني أمية؛ لأنها تكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي.
وحيث قال: (مسيرة ليلتين) أراد: من غير يوم بينهما.
وحيث قال: (مسيرة يومين) أراد: من غير ليلة بينهما.
وحيث قال: (مسيرة يوم وليلة) أراد: متواليين، وذلك يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة: (ثلاث مراحل)، وهو أربعة وعشرون فرسخًا، وروي ذلك عن ابن مسعود.
وقال الأوزاعي: (يقصر في مسيرة يوم)، وروي ذلك عن أنس.
وقال داود، وأهل الظاهر: (يقصر في طويل السفر وقصيره).
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان والطائف».
فدليل الخطاب من الخبر دليل على أبي حنيفة، ونطقه دليل على غيره.
فإن كان السير في البحر، فالاعتبار بالمسافة التي ذكرناها في البر، وهي أربعة براد، ولو قطعها في أدنى زمان، فيجوز له القصر في السفر في ذلك.

.[فرع: ما لو كان للبلد طريقان]

وإن كان للبلد الذي يقصده طريقان، يقصر في إحداهما الصلاة، دون الأخرى، فسافر في الطريق القصيرة لم يقصر.
وإن سافر في الطريق الطويلة، فإن كان لغرض صحيح في السفر من واجب، أو طاعة، أو مباح، فله أن يقصر الصلاة؛ لأنه سافر لمعنى جائز.
وإن كان لغير غرض، ولكن ليقصر الصلاة، ففيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يقصر، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يبغض المشائين من غير أرب»، وهذا يمشي من غير أرب؛ ولأنه طول الطريق على نفسه لا لغرض، فأشبه إذا مضى في الطريق القصير طولًا وعرضًا، حتى طال.
والثاني: له أن يقصر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وهذا ضارب.
ولأنه سفر مباح تقصر في مثله الصلاة، فهو كما لو لم يكن له طريق سواه.
وإن سار هائمًا على وجهه، لا لغرض، فقد قال في "الفروع": هل له أن يقصر؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في التي قبلها.
وقال ابن الصباغ، والطبري: لا يقصر.
قال في "الفروع": وإن كان الرجل ممن لا موطن له، بل عادته السير أبدًا، جاز له القصر، والمستحب له: الإتمام.

.[فرع: سافر في سفينة ونحوها ومعه أهله]

قال في "الأم" [1/166] (وإذا كان ملاح في سفينة له، وكان فيها أهله، وماله، وولده، وهو يسافر في البحر، أحببت له ألا يقصر؛ لأنه في وطنه، وموضع إقامته، فإن قصر الصلاة جاز؛ لأنه مسافر).
وقال أحمد: (لا يجوز له القصر).
دليلنا: أنه يسافر لمباح سفرًا تقصر فيه الصلاة، فهو كما لو يم يكن له فيها أهل.
قال في قال في "الأم" [1/167] (وإن كان سيارة، يتبع أبدا مواقع القطر -حل بموضع- إذا شام برقا انتجعه، فإن كان لا يبلغ سيره إليه ستة عشر فرسخًا، لم يقصر)، ومعنى هذا: أنه يسير في طلب موضع القطر، وليس يقصد موضعًا بعينه.
وقوله: (شام): أبصر.
وكذلك إذا سير في طلب الخصب.

.[فرع: صلاة الأسير]

فإن أسر المشركون رجلًا من المسلمين، فساقوه معهم، لم يجز له القصر؛ لأنه لا يتيقن المسافة التي يحمل إليها.
قال الشافعي: (فإن ساروا به ستة عشر فرسخًا، كان له أن يقصر؛ لأنه قد تيقن طول سفره).
وينبغي أنه إذا علم أنهم يحملونه إلى بلد يقصر إليه الصلاة، فإن كان ينوي أنهم متى خلوه رجع لم يقصر، وإن نوى أن يقصد ذلك البلد، أو غيره مما تقصر إليه الصلاة قصر.
وإن أبق له عبد، أو ضل له مال، فسافر لطلبه إلى بلد، تقصر إليه الصلاة، واعتقد أنه إن لقي عبده أو ماله دونه، رجع لم يقصر؛ لأنه لم يقطع على سفر طويل.
وإن نوى أنه لا يرجع وإن وجده جاز له أن يقصر؛ لأنه نوى سفرًا طويلًا، فإن وجده، ثم بدا له الرجوع صار سفرًا مستأنفًا، فإن كان بينه وبين بلده ما تقصر إليه الصلاة قصر، فإن كان دونه لم يقصر.

.[فرع: تعدد نية المسافر]

قال الشافعي في "الأم" [1/162 و166] (وإذا نوى أن يسافر من بلده إلى بلد، ثم يسافر من ذلك البلد إلى بلد آخر، اعتبر حكم كل واحد منهما بنفسه)، هكذا أطلقها الشافعي، والشيخ أبو إسحاق في " المهذب".
قال أصحابنا: وهذا يقتضي أن يكون المسافر قصد أن يقيم في البلد الأول أربعة أيام، وهذا مرادهما فيما أطلقا من ذلك.
فعلى هذا: إن كان بين بلده الذي سافر منه، وبين البلد الأول مسافة القصر، كان له أن يقصر، وكذلك إن كان بين البلد الأول والثاني مسافة القصر، كان له أن يقصر أيضًا، إذا خرج من البلد الذي وصله، وإن كان بين كل واحد منهما دون مسافة القصر، لم يقصر في واحد منهما.

.[مسألة:الإتمام أفضل أم القصر]

قد ذكرنا أن مسافة القصر: ستة عشر فرسخًا، وهو مسير يومين، قال الشافعي: (وأحب ألا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام) ليخرج بذلك من الخلاف.
وإذا كان سفره مسيرة ثلاثة أيام، فهل القصر أفضل، أم الإتمام؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وغيره:
أحدهما: أن الإتمام أفضل، وهو اختيار المزني؛ لأن الأصل: التمام، والقصر بدل عنه، فكان أفضل، كغسل الرجلين، والصوم في السفر؛ ولأنه أكثر عملًا.
والثاني: أن القصر أفضل، وبه قال مالك، وأحمد، ولم يذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق غيره.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا».
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يداوم على القصر، ولا يداوم إلا على الأفضل.
ولأنه إذا قصر سقط عنه الفرض بالإجماع، وإذا أتم اختلف في إجزائه.
وأما الصوم في السفر: فقال في " العدة": فيه وجهان:
أحدهما: الفطر أفضل، فعلى هذا: يسقط السؤال.
والثاني: الصوم أفضل، وهو المشهور.
والفرق بينه وبين القصر على هذا: أنه إذا أخره، عرضه للنسيان وعوارض الزمان، وليس كذلك الإتمام، فإنه يسقط إلى بدل في الحال.
قال في "الفروع": وقد قيل: إن القصر والإتمام سواء.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نوى الكافر أو الصبي السفر إلى بلد مسيرة ثلاثة أيام، فسار يومين، فأسلم الكافر، وبلغ الصبي جاز لهما أن يقصرا فيما بقي من سفرهما.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يقصر الكافر؛ لأن له نية صحيحة، ولا يقصر الصبي؛ لأنه لا نية له.
ودليلنا: أن الكافر أسوأ حالًا من الصبي؛ لأنه ليس من أهل الصلاة والرخص، فإذا جاز له القصر؛ فالصبي بذلك أولى.

.[فرع: ترك المسافر القصر]

فإن ترك المسافر القصر، فأتم جاز، وبه قال عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.
وذهبت طائفة إلى أن القصر عزيمة، ولا يجوز له التمام، ذهب إليه عمر وعلي، ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة.
وتفصيل مذهب أبي حنيفة: أنه إذا ائتم بمقيم لزمه أن يتم، وإن صلى منفردًا أربعًا، فإن جلس في الأوليين قدر التشهد، ثم قام أجزأ عنه الركعتان الأوليان، وكان الأخريان نافلة، وإن لم يجلس بطلت صلاته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]، وهذه اللفظة في لغة العرب وكلامهم موضوعة للإباحة ورفع الحرج.
وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سافرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رجعت قال: ما صنعت في سفرك؟ فقلت: أتممت الذي قصرت، وصمت الذي أفطرت، فقال: أحسنت».
وروي عن عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصر في السفر، ويتم».
وروي عن أنس: أنه قال: (سافرنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا المقصر، ومنا المتم، فلم يعب المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر).

.[مسألة:نية المعصية في السفر]

قد ذكرنا أن المسافر للمعصية لا يترخص بشيء من رخص المسافر، ومضى الخلاف فيه، فإن أبق عبد من سيده، أو نشزت المرأة من زوجها، أو هرب من عليه حق، وهو قادر على أدائه، من الحق الذي عليه لم يجز لواحد منهم أن يترخص بشيء من رخص المسافر؛ لأنهم عصاة، فإن سافر بنية تجوز له القصر، ثم أحدث نية المعصية في أثناء سفره، فهل تمنعه هذه النية من الترخص برخص المسافر؟ فيه وجهان: حكاهما الشيخ أبو حامد في "التعليق".
أحدهما: له أن يترخص؛ لأن بإنشاء سفره، كان يباح الرخصة، فلا يضره ما اعترض بعد ذلك من نية المعصية.
والثاني: لا يجوز له الترخص؛ لأنه عاص في سفره، فهو كما لو أنشأ السفر بهذه النية.
وتشبه هذه المسألة: إذا كان له مقصد صحيح، ثم أحدث نية في أثناء السفر، أنه إذا استقبلني فلان انصرفت، فهل تمنعه هذه النية من القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 86]:
أحدهما: تمنع، كما لو أنشأ السفر على هذه النية.
قال القفال: فإن عرف أنه لا يستقبله ما لم يمض ستة عشر فرسخًا فله القصر، وإن سار ابتداء على هذه النية.
والوجه الثاني: له أن يقصر، اعتبارًا بإنشاء سفره، ولا اعتبار بالنية الحادثة، وهذا هو القياس؛ لأن الشافعي نص في "الأم" [1/165] (إذا سافر إلى بلد، فمر في بلد، وأقام بها يومًا، ونوى: إن لقي فلانًا، أو قدم فلان أقمت أربعًا، أو أكثر، فله أن يقصر ما لم يلق فلانًا؛ لأنه لم يوجد شرط الإقامة).
قال الشافعي: (فإذا لقي فلانًا أتم الصلاة؛ لأن الإقامة والنية وجدتا جميعًا).
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أنه إن لقي فلانًا، وهو مستصحب للنية، عازم عليها، فإن لقي فلانًا، ثم بدا له ألا يقيم قال الشافعي: (لم يكن له أن يقصر؛ لأنه قد صار مقيمًا، فما لم يخرج لم يقصر).
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا بدا له قبل لقاء فلان، أن له القصر، إذا لقيه؛ لأنه لم تحصل نية الإقامة.